ابحث cherche

mercredi 2 octobre 2013

كيف تصنع المدن من "لا شيء" "شيــئا"؟


كيف تصنع المدن من "لا شيء" "شيــئا"؟
بقلم الدكتور محمد الصحبي العلاني

كيف تحوّل لحظات ضعفها مــصدرًا للقوّة؟
كيف يصبح الماضي -حقـــّا- مـدخلا إلى المستقبل وسبيلا إلى تثوير الحاضر وتغييره؟
هذه جملة من الأسئلة التي أعتقد أنّ على كلّ قيروانيّ أن يطرحها وأن يحاول الإجابة عليها
سأروي لكم حكاية عجيبة غريبة كنت شاهدًا عليها في يوم ما أثناء إحدى زياراتي لبريطانيا



عندما كنت بصدد إعداد أطروحة دكتورا الدولة حول موضوع "الحلم ودلالاته في الثقافة العربيّة الإسلاميّة"، احتجت إلى مصدر هامّ وهو "رسالة في تعبير الرؤيا" للشيخ الرئيس الفيلسوف ابن سينا. وقد نشرت هذه الرسالة في مدينة "كلكوتا" الهندية في الخمسينات من القرن المنقضي وترجمت إلى اللغة الأنجليزيّة...
عبثا بحثت عن هذا المصدر الهام، فلم أجد له أثرا في المكتبات العامة بما في ذلك "المكتبة الأنجليزية" التي توازي عندنا "المكتبة الوطنية". وعندما أخبرت أصدقائي الأنجليز بعجزي عن العثور على مبتغاي تطوّعوا لأخذي إلى مكان ذكروا لي أنّ جميع المنشورات الأنجليزيّة القديمة موجودة فيه.
ظننت، للوهلة الأولى، أنّهم سيصطحبونني إلى مكتبة عظيمة أو إلى مركز ثقافيّ روعة في البناء، ولكنّهم خرجوا بي من مدينة برقينهام إلى الريف الأنجليزيّ البديع... سرنا حوالي 25 كلم بين الحقول، إلى أن وصلنا تلّة مرتفعة شيئا ما اصطفّت في أعلاها وعلى امتداد البصر مجموعة من الدكاكين الخشبيّة...
ركــنــّا سيارتنا في فضاء مفتوح إلى جانب عشرات السيارات الأخرى، ثمّ صعدنا التلّة وبقينا ننتقل من دكّان خشبيّ إلى آخر... كانت الدكاكين على تواضعها ورثاثة هيئتها تغصّ بالكتب والمجلاّت والجرائد القديمة.. وفي كلّ دكان كان يستقبلنا شخص ما تطوّع أصدقائي الأنجليز بسؤاله عن الكتاب الذي أبحث عنه، وكان هدا الشخص يسارع إلى البحث في كمبيوتره الشخصيّ عن عنوان الكتاب الذي أبحث عنه...

في غمرة الكتب والأوراق والمجلات والوثائق القديمة،،، نسيت السبب الذي جاء بي إلى هذا المكان العجيب الغريب؛ كان هنالك سؤال واحد يتردّد في ذهني: "ما الذي جمع هؤلاء الناس في هذا المكان؟ وكيف خطرت لهم فكرة تجميع هذا الكمّ المهول من الكتب والمجلات والمراجع القديمة هنا، وهنا بالذات؟
طرحت السؤال على أصدقائي الأنجليز فكانت إجابتهم عجيبة غريبة حقا...
كانت إجابتهم درســــــــــــــــا جــــــــــــديــــــــــــــرا بــــــــــــــأن يـــــتــــــعــــــــلّــــــــــمــــــــــه أهــــــــــــل القيــروان وأن يـــســتــخـــلــصـــوا منه العـــبـــر المـــنـــاســـبــــة: 
أخبرني أصدقائي الأنجليز أنّ شابّا في العشرينات من العمر ورث عن آبائه وأجداده مكتبة عظيمة تحوي مجموعة هامة من الكتب والمجلات والوثائق والإسطوانات وما شابهها. وقد أراد هذا الشاب أن يتخلّص من هذه "التركة الثقيلة" التي لا تفيده في شيء فقرّر حرقها والتخلّص منها. وحرصا منه على عدم إزعاج جيرانه حمل المكتبة وما تحويه على دفعات إلى مكان بعيد عن المدينة بغرض حرقها... ولمّا كان الطقس ماطرا، صنع على عجل كوخا خشبيا وضع فيه الكتب والوثائق والاسطوانات على أمل أن يصحو الطقس وتشرق الشمس فيقوم بإحراقها والتخلّص منها...
وفي اللّحظة التي همّ فيها بالإقدام على ما نوى القيام به، انتابته لحظة ضعف، وبدل إحراق الكتب وإتلافها، خطر له أن يضع لافتة كبيرة الحجم كتب عليها: كتب للبيع.
لم تمرّ اللافتة دون أن تثير الانتباه، فصار الكوخ الخشبيّ مقصد الراغبين في شراء الكتب القديمة، وسرعان ما انتشر خبر "كوخ الكتب الواقع على الربوة"، فانضمّ إليه أشخاص آخرون صنعوا هم أيضا أكواخا خشبيّة لعرض الكتب والمنشورات القديمة، وانبعثت حركيّة ثقافية اقتصادية اجتماعيّة تجنّدت وسائل الإعلام الأنجليزيّة للإشادة بها والدعوة إلى دعمها... 

تعود بي الذاكرة إلى ذلك المكان العجيب وإلى تلك القصّة الغريبة فأتحسّر على حال القيروان...

آه،،، ما الذي يمنعنا اليوم من التفكير في حرق الكتب التي ورثناها عن أجدادنا؟
لا من أجل حرقها بل من أجل التراجع عن هذا القرار الخطيرواستبداله بقرار آخر، قرار بناء كوخ في وسط "الحماضة" المحيطة بالقيروان من كل جانب، فمن يدري، لعلّنا من "الحماضة" نبني عالما جديدا؟؟؟؟

لم أجد الكتاب الذي أبحث عنه، ومن غرائب الصدف أنّني وجدته في تونس بالذات في مكتبة الآباء البيضالكائنة في معقل الزعيم، لا أخفيكم أنّني كدت أرقص فرحا عندما وجدت ضالّتي، وأنّني أصررت على مقابلة الأب جون فونتان لأشكره ولأروي له قصّتي مع الكتاب وكيف تنقّلت عبر مكتبات أنجلترا بحثا عنه...
ولأنّ عجائب هذه القصّة لا تنتهي، فإنّ الأب جون فونتان اكتفى بمعاتبتي بكلّ لطف حين قال لي:
أنت مخطئ يا سي العلاّني، كان حريّا بك أن تبدأ بالسؤال عن الكتاب عندنا، فإن لم تجده عندنا، فابحث عنه عند غيرنا... ألا تعلم أنّ الباحثين يأتون خصّيصا إلى مكتبتنا، مكتبة "ابلا"  قادمين من نيورك ومن لندن ومن باريس بحثا عمّا يحتاجون إليه في بحوثهم، فكيف تولّي وجهتك إلى غيرنا وكلّ الخير لدينا؟

عندها فقط أدركت أن لتونس ذاكرة لا تمّحي ولن تمّحي، وأنّ لها رجالا ونساء من كلّ الملل والنحل والطوائف يحمون رصيدها الحضاريّ المتنوّع المشترك من أجل أن تبقى منارة بين الأمم...